فصل: سورة الرعد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (110- 111):

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}
قوله عز وجل: {حتى إذا استيأس الرسل} قال صاحب الكشاف: حتى متعلقة بمحذوف دلَّ عليه الكلام كأنه قيل وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فتراخى نصرهم حتى إذا استيأس الرسل عن النصر، وقال الواحدي: حتى هنا حرف من حروف الابتداء يستأنف بعدها والمعنى حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم {وظنوا أنهم قد كذبوا} قرأ أهل الكوفة وهم عاصم وحمزة والكسائي كذبوا بالتخفيف ووجه هذه القراءة على ما قاله الواحدي أن معناه ظن الأمم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم وهذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد، وقال أهل المعاني كذبوا من قولهم كذبتك الحديث أي لم أصدقك ومنه قوله تعالى وقعد الذين كذبوا الله ورسوله قال أبو علي والضمير في قوله وظنوا على هذه القراءة للمرسل إليهم والتقدير وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم إهلاك أعدائهم وهذا معنى قول ابن عباس إنهم لم يؤمنوا حتى نزل بهم العذاب وإنما ظنوا ذلك لما شاهدوا من امهال الله إياهم ولا يمتنع حمل الضمير في ظنوا على المرسل إليهم وإن لم يتقدم لهم ذكر لأن ذكر الرسل يدل على ذكر المرسل إليهم وإن شئت قلت إن ذكرهم جرى في قوله أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم أي مكذبي الرسل والظن هنا على معنى التوهم والحسبان وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم الإجابة وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا من نصرهم وإهلاك من كذبهم وقيل معناه وتيقين الرسل أنهم قد كذبوا في وعد قومهم إياهم الإيمان أي وعدوا أن يؤمنوا ثم لم يؤمنوا وقال صاحب الكشاف وظنوا أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حتى حدثتهم بأنهم لا ينصرون أو رجاؤهم كقولهم رجاء صادق ورجاء كاذب والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة وانتظار النصر من الله تعالى وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب، وعن ابن عباس: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله به من النصر قال وكانوا بشراً وتلا قوله وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله. قال صاحب الكشاف: فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه الطبيعة البشرية وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل الله الذي هم أعرف الناس بربهم وأنه متعال عن خلق الميعاد وحكى الواحدي عن ابن الأنباري أنه قال هذا غير معول عليه من جهتين إحداهما أن التفسير ليس عن ابن عباس لكنه من متأول تأول عليه والأخرى أن قوله جاءهم نصرنا دال على أن أهل الكفر ظنوا ما لا يجوز مثله واستضعفوا رسل الله ونصر الله للرسل ولو كان الظن للرسل كان ذلك منهم خطأ عظيماً ولا يستحقون ظفراً ولا نصراً وتبرئة الأنبياء وتطهيرهم واجب علينا إذا وجدنا إلى ذلك سبيلاً وقرأ الباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وظنوا أنهم قد كذبو بالتشديد ووجه ظاهر وهو أن معناه حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنوا يعني وأيقنوا يعني الرسل أن المم قد كذبوهم تكذيباً لا يرجى بعده إيمانهم فالظن بمعنى اليقين وهذا معنى قول قتادة وقال بعضهم معناه حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم أن يصدقوهم وظنوا أن من قد آمن بهم من قومهم قد فارقوهم وارتدوا عن دينهم لشدة المحنة والبلاء واستبطؤوا النصر أتاهم النصر وعلى هذا القول الظن بمعنى الحسبان والتكذيب مظنون من جهة من آمن بهم يعني وظنوا بالرسل ظن حسبان أن ربهم قد كذبهم في وعد الظفر والنصر لإبطائه وتأخره عنهم ولطول البلاء بهم لا أنهم كذبوهم في كونهم رسلاً وقيل إن هذا التكذيب لم يحصل من أتباعهم المؤمنين لأنه لو حصل لكان نوع كفر ولكن الرسل ظنت بهم ذلك لبطء النصر وعلى هذا القول الظن بمعنى اليقين والتكذيب المتيقن هو من جهة الكفار وعلى القولين جميعاً فالكناية في وظنوا للرسل.
(خ) عن عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة عن قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أو كذبوا، قالت: بل كذبهم قومهم فقلت والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم وما هو بالظن فقالت يا عروة أجل لقد استيقنوا بذلك فقلت لعلها قد كذبوا فقالت: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك من ربهم قلت فما هذه الآية قالت هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أن أتباعهم كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك.
وفي رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة قال: قال ابن عباس حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا خفيفة قال ذهب لها هنالك وتلا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب قال فلقيت عروة بن الزبير وذكرت ذلك له فقال قالت عائشة معاذ الله والله ما وعد الله ورسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون معهم من قومهم من يكذبوهم فكانت تقرؤها وظنوا أنهم قد كذبوا مثقلة.
وقوله تعالى: {جاءهم نصرنا} يعني جاء نصر الله النبيين {فنجي من نشاء} من عبادنا يعني عند نزول العذاب بالكافرين فننجي المؤمنين المطيعين {ولا يرد بأسنا} يعني عذابنا {عن القوم المجرمين} يعني المشركين قوله تعالى: {لقد كان في قصصهم} يعني في خبر يوسف وإخوته {عبرة} أي موعظة {لأولي الألباب} يعني يتعظ بها أولو الألباب والعقول الصحيحة ومعناه الاعتبار والعبرة الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد والمراد من التأمل والتفكر ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه وإخراجه من السجن وتمليكه مصر بعد العبودية وجمع شملة بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة واليأس من الاجتماع لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته وإظهار دينه وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب فكانت معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن الله تعالى قال في أول هذه السورة نحن نقص عليك أحسن القصص وقال في آخرها لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب فدل على هذه القصة من أحسن القصص وإن فيها عبرة لمن اعتبرها {ما كان حديثاً يفترى} يعني ما كان هذا القرآن حديثاً يفتري ويختلق لأن الذي جاء به من عند الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يصح منه أن يفتريه أو يختلقه لأنه لم يقرأ الكتب ولم يخلط العلماء ثم إنه جاء بهذا القرآن المعجز فدل ذلك على صدقه وأنه ليس بمفتر {ولكن تصديق الذي بين يديه} يعني ولكن كان تصديق الذي بين يديه من الكتب الإلهية المنزلة من السماء من التوراة والإنجيل وفيه إشارة إلى أن هذه القصة وردت على وجه الموافق لما في التوراة من ذكر قصة يوسف {وتفصيل كل شيء} يعني أن هذا القرآن المنزل عليك يا محمد تفصيل كل شيء تحتاج إليه من الحلال والحرام والحدود والأحكام والقصص والمواعظ والأمثال وغير ذلك مما يحتاج إليه العباد في أمر دينهم ودنياهم {وهدى} يعني إلى كل خير {ورحمة} يعني أنزلناه رحمة {لقوم يؤمنون} لأنهم هم الذين ينتفعون به والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

.سورة الرعد:

.تفسير الآيات (1- 2):

{المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)}
قوله عز وجل: {آلمر} قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه أنا الله أعلم وأرى. وروى عطاء عنه أنه قال: إن معناه أنا الله الملك الرحمن {تلك آيات الكتاب} الإشارة بتلك الى آيات السورة المسماة بالمر، والمراد بالكتاب السورة أي آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها ثم قال تعالى: {والذي أنزل إليك من ربك الحق} يعني من القرآن كله هو الحق الذي لا مزيد عليه، وقيل المراد بالإشارة في قوله: {تلك} الأخبار والقصص أي الأخبار والقصص التي قصصتها عليك يا محمد هي آيات التوراة والإنجيل والكتب الإلهية القديمة المنزلة، والذي أنزل إليك يعني وهذا القرآن الذي أنزل إليك يا محمد من ربك الحق أي هو الحق فاعتصم به وقال ابن عباس وقتادة: أراد بآيات الكتاب القرآن، والمعنى: هذه آيات الكتاب الذي هو القرآن ثم قال: والذي أنزل إليك من ربك الحق يعني: وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق لا شك فيه ولا تناقض {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} يعني مشركي مكة نزلت هذه الآية في الرد عليهم حين قالوا إن محمداً يقوله من تلقاء نفسه، ثم ذكر من دلائل ربوبيته وعجائب قدرته ما يدل على وحدانيته فقال تعالى: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد} جمع عمود وهي الأساطين والدعائم التي تكون تحت السقف وفي قوله: {ترونها} قولان أحدهما أن الرؤية ترجع إلى السماء يعني: وأنتم ترون السماوات مرفوعة بغير عمد من تحتها يعني ليس من دونهما دعامة تدعمها ولا من فوقها علاقة تمسكها، والمراد نفي العمد بالكلية. قال إياس بن معاوية: السماء مقبية على الأرض مثل القبة، وهذا قول الحسن وقتادة وجمهور المفسرين، وإحدى الروايتين عن ابن عباس. والقول الثاني: إن الرؤية ترجع الى العمد، والمعنى أن لها عمداً ولكن لا ترونها أنتم، ومن قال بهذا القول يقول: إن عمدها على جبل قاف، وهو جبل من زمرد محيط بالدنيا، والسماء عليه مثل القبة، وهذا قول مجاهد وعكرمة والرواية الأخرى عن ابن عباس، والقول الأول أصح، وقوله تعالى: {ثم استوى على العرش} تقدم تفسيره والكلام عليه في سورة الأعراف بما فيه كفاية {وسخر الشمس والقمر} يعني ذللهما لمنافع خلقه فهما مقهوران، يجريان على ما يريد {كلُّ يجري لأجل مسمى} يعني إلى وقت معلوم، وهو وقت فناء الدنيا وزوالها. وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما يعني أنهما يجريان في منازلهما ودرجاتهما الى غاية ينتهيان إليها ولا يجاوزانها، وتحقيقه أن الله تعالى جعل لكل واحد من الشمس والقمر سيراً خاصاً إلى جهة بمقدار خاص من السرعة والبطء في الحركة، {يدبر الأمر} يعني أنه تعالى يدبر أمر العالم العلوي والسفلي، ويصرفه ويقضيه بمشيئته، وحكمته، على أكمل الأحوال لا يشغله شأن عن شأن، وقيل: يدبر الأمر بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة، ففيه دليل على كمال القدرة والرحمة، لأن جميع العالم محتاجون إلى تدبيره ورحمته، داخلون تحت قهره وقضائه وقدرته {يفصل الآيات} يعني أنه تعالى يبين الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته، وقيل: إن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان: الأول: الموجودات المشاهدة، وهي خلق السماوات والأرض وما فيهما من العجائب وأحوال الشمس والقمر وسائر النجوم وهذا قد تقدم ذكره.
والقسم الثاني: الموجودات الحادثة في العالم، وهي الموت بعد الحياة والفقر بعد الغنى والضعف بعد القوة إلى غير ذلك من أحوال هذا العالم، وكل ذلك مما يدل على وجود الصانع وكمال قدرته {لعلكم بلقاء ربكم توقنون} يعني أنه تعالى يبين الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته لكي توقنوا، وتصدقوا بلقائه والمصير إليه بعد الموت لأن من قدر على إيجاد الإنسان بعد عدمه قادر على إيجاده وإحيائه بعد موته، واليقين صفة من صفات العلم، وهو فوق المعرفة والدراية وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك، يقال منه استيقن وأيقن بمعنى علم.

.تفسير الآيات (3- 7):

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)}
قوله تعالى: {وهو الذي مد الأرض} لما ذكر الدلالة على وحدانيته وكمال قدرته وهي رفع السمأوات بغير عمد، وذكر أحوال الشمس والقمر أردفها بذكر الدلائل الأرضية، فقال: وهو الذي مد الأرض أي بسطها على وجه الماء، وقيل: كانت الأرض مجتمعة فمدها من تحت البيت الحرام، وهذا القول إنما يصح إذا قيل إن الأرض منسطحة كالأكف، وعند أصحاب الهيئة: الأرض كرة، ويمكن أن يقال: إن الكرة إذا كانت كبيرة عظيمة فإن كل قطعة منها تشاهد ممدودة كالسطح الكبير العظيم، فحصل الجمع ومع ذلك فالله تعالى قد أخبر أنه مد الأرض، وأنه دحاها وبسطها وكل ذلك يدل على التسطيح والله تعالى أصدق قيلاً وأبين دليلاً من أصحاب الهيئة {وجعل فيها}. يعني في الأرض {رواسي} يعني جبالاً ثابتة، يقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت وأرساه غير أثبته قال ابن عباس: كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض {وأنهاراً}، يعني وجعل في الأرض أنهاراً جارية لمنافع الخلق {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} يعني صنفين اثنين أحمر وأصفر وحلواً وحامضاً {يغشي الليل النهار}، يعني يلبس النهار ظلمة الليل ويلبس الليل ضوء النهار {إن في ذلك} يعني الذي تقدم ذكره من عجائب صنعته وغرائب قدرته الدالة على وحدانيته {لآيات} أي دلالات {لقوم يتفكرون} يعني فيستدلون بالصنعة على الصانع، وبالسبب على المسبب، والفكر هو تصرف القلب في طلب الأشياء، وقال صاحب المفردات: الفكر قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روي «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله» إذ كان الله منزلها أن يوصف بصورة. وقال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك لأنه يستعمل في طلب المعاني، وهو فرك الأمور وبحثها طلباً للوصول الى حقيقتها. قوله عز وجل: {وفي الأرض قطع متجاورات} يعني متقاربات بعضها من بعض، وهي مختلفة في الطبائع فهذه طيبة تنبت وهذه سبخة لا تنبت، وهذه قليلة الريع وهذه كثيرة الريع {وجنات} يعني متقاربات بعضها من بعض، وهي مختلفة في الطبائع فهذه طيبة تنبت وهذه سبخة لا تنبت، وهذه قليلة الريع وهذه كثيرة الريع {وجنات} يعني بساتين والجنة كل بستان ذي شجر من نخيل وأعناب وغير ذلك، سمي جنة لأنه يستر بأشجاره الأرض وإليه الإشارة بقوله: {من أعناب وزرع ونخيل صنوان} جمع صنو وهي النخلات يجتمعن من أصل واحد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس «عم الرجل صنو أبيه» يعني أنهما من أصل واحد {وغير صنوان} هي النخلة المنفردة بأصلها فالصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق {يسقى بماء واحد} يعني أشجار الجنات وزروعها، والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام، وقيل: في حده جوهر سيال به قوام الأرواح؛ {ونفضل بعضها على بعض في الأكل} يعني في الطعم ما بين الحلو والحامض والعفص وغير ذلك من الطعام.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «في قوله تعالى: {ونفضل بعضها على بعض في الأكل} قال: الدقل والنرسيان والحلو والحامض» أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب. قال مجاهد: هذا كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد، وقال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن فسطحها فصارت قطعاً متجاورات، وأنزل على وجهها ماء السماء فتخرج هذه زهرتها وثمرتها وشجرها، وتخرج هذه نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها وكل يسقى بماء واحد فلو كان الماء قليلاً. قيل: إنما هذا من قبل الماء كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم فتخشع وتخضع وتقسو قلوب قوم فتلهو، ولا تسمع. وقال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزياده أو نقصان قال الله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} وقوله تعالى: {إن في ذلك} يعني الذي ذكر {لآيات لقوم يعقلون} يعني فيتدبرون ويتفكرون في الآيات الدالة على وحدانيته. قوله تعالى: {وإن تعجب فعجب قولهم} العجب تبعيد النفس رؤية المستبعد في العادة، وقيل: العجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب ولهذا قال بعض الحكماء: العجب ما لا يعرف سببه ولهذا قيل: العجب في حق الله محال لأنه تعالى علاّم الغيوب لا تخفى عليه خافية، والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه وإنك يا محمد إن تعجب من تكذيبهم إياك بعد أن كنت عندهم تعرف بالصادق الأمين فعجب أمرهم، وقيل: معناه وإن تعجب من اتخاذ المشركين ما لا يضرهم ولا ينفعهم آلهة يعبد ونها مع إقرارهم بأن الله تعالى خالق السماوات والأرض، وهو يضر وينفع وقد رأوا من قدرة الله وما ضرب لهم به الأمثال ما رأوا فعجب قولهم. وقيل وإنك إن تعجب من إنكارهم النشأة الآخرة والبعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من الله فعجب قولهم وذلك أن المشركين كانوا ينكرون البعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من الله وقد تقرر في النفوس أن الإعادة أهون من الابتداء فهذا موضع التعجب وهو قولهم {أئذا كنا تراباً} يعني بعد الموت {أئنا لفي خلق جديد} يعني نعاد خلقاً جديداً بعد الموت كما كنا قبله ثم إن الله تعالى قال في حقهم {أولئك الذين كفروا بربهم} وفيه دليل على أن كل من أنكر البعث بعد الموت فهو كافر بالله تعالى، لأن من أنكر البعث بعد الموت فقد أنكر القدرة وأن الله على كل شيء قدير، ومن أنكر ذلك فهو كافر {وأولئك الأغلال في أعناقهم} يعني يوم القيامة، والأغلال جمع غل وهو طوق من حديد يُجعل في العنق.
وقيل أراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير ذليلاً بالغل {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} يعني أنهم مقيمون فيها ولا يخرجون منها ولا يموتون. {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} الاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته، والمراد بالسيئة هنا هي العقوبة وبالحسنة العافية، وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلاً من العافية استهزاء منهم، وهو قولهم {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} {وقد خلت من قبلهم المثلات} يعني وقد مضت في الأمم المكذبة العقوبات بسبب تكذيبهم رسلهم، والمثلة بفتح الميم وضم الثاء المثلثة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثلاً ليرتدع غيره به، وذلك كالنكال وجمعه مثلات بفتح الميم وضمها مع ضم الثاء فيهما لغتان {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} قال ابن عباس: معناه إنه لذو تجاوزٍ عن المشركين إذا آمنوا {وإن ربك لشديد العقاب} يعني للمصرين على الشرك الذي ماتوا عليه. وقال مجاهد: إنه لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب عنهم، وإنه لشديد العقاب إذا عاقب. قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا} يعني من أهل مكة {لولا} أي هلاّ {أنزل عليه} يعني على محمد صلى الله عليه وسلم {آية من ربه} يعني مثل عصى موسى وناقة صالح ذلك لأنهم لم يقنعوا بما رأوا من الآيات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم {إنما أنت منذر} أي ليس عليك يا محمد غير الإنذار والتخويف، وليس لك من الآيات شيء {ولكل قوم هاد} قال ابن عباس: الهادي هو الله، وهذا قول سعيد ابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك والنخعي، والمعنى إنما عليك الإنذار يا محمد والهادي هو الله يهدي من يشاء. وقال عكرمة في رواية عنه وأبو الضحى: الهادي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم المعنى: إنما أنت منذر وأنت هاد، وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني ولكل قوم نبي يهديهم وقال أبو العالية: الهادي هو العمل الصالح. وقال أبو صالح: الهادي هو القائد إلى الخير لا إلى الشر.